الثلاثاء، 19 أبريل 2016

قصة الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الجزء الاخير

ومضى العالم بأجمعه يركض ورائي: صفّارة الشرطي، وصوت حذائه يقرع بلاط الشارع ورائي تماماً. صراخ عصام، أجراس الحافلات. نداء الناس.. هل كانوا حقاً ورائي؟ ليس بوسعك أن تقول وليس بوسعي أيضاً. لقد عدوت متأكداً حتى صميمي أن لا أحد في كل الكواكب السيارة يستطيع أن يمسكني.. وبعقل طفل العشر سنوات سلكت
طريقاً آخر.
ربما لأنني حسبت أن عصام سيدلّ الشرطي على طريقي. لست أدري. لم ألتفت. كنت أركض ولا أذكر أنني تعبت.. كنت جندياً هرب من ميدان حرب أجبر على خوضها وليس أمامه إلاّ أن يظل يعدو والعالم وراء كعبيّ حذائه.

ووصلت إلى البيت بعد الغروب، وحين فتح لي الباب شهدت ما كنت أشعر في أعماقي أنني سأشهده: كان السبعة عشر مخلوقاً في البيت ينتظرونني. وقد درّسوني بسرعة، ولكن بدقة، حين وقفت في حلق الباب أبادلهم النظر:كفي مطبقة على الخمس ليرات في جيبي، وقدماء ثابتتان في الأرض. 

كان عصام يقف بين أمه وأبيه، وكان غاضباً. لا شك أن شجاراً قد وقع بين العائلتين قبل مقدمي. واستنجدت بجدي الذي كان جالساً في الركن ملتحفاً بعباءته البنية النظيفة ينظر إليّ بإعجاب: رجلاً كان حكيماً. رجلاً حقيقياً يعرف كيف ينبغي له أن ينظر إلى الدنيا.
وكان كل ما يريده من الخمس ليرات: جريدة كبيرة هذه المرة.
وانتظرت الشجار بفارغ الصبر. كان عصام بالطبع قد كذب: قال لهم أنه هو الذي وجد الخمس ليرات وأنني أخذتها منها بالقوة. ليس ذلك فقط، بل أجبرته على حملة السلة الثقيلة وحده طوال المسافة المنهكة: ألم أقل لك أنه زمن الاشتباك؟ لم يكن أي واحد مننا مهتماً فقط بل كان متأكداً من أن أحداً لم يهتم بالحقيقة. ليس ذلك فقط بل إنه ارتضى أن يذلّ نفسه ويعلن ربما للمرة الأولى أنني ضربته وأنني أقوى منه.. ولكن ما قيمة ذلك كله أمام المسألة الحقيقية الأولى.

كان أبوه يفكّر بشيء آخر تماماً: كان مستعداً لقبول نصف المبلغ وكان أبي يريد النصف الآخر لأنني لو نجحت في الإحتفاظ بالمبلغ كله لصار من حقي وحدي، أما إذا تخلّيت عن هذا الحق فأفقد كل شيء وسيتقاسمون المبلغ.
ولكنهم لم يكونوا يعرفون حقاً معنى أن يكون الطفل ممسكاً بخمس ليرات في جيبه زمن الإشتباك.. وقد قلت لهم جميعاً بلهجة حملت لأول مرة في حياتي طابع التهديد بترك البيت وإلى الأبد: إن الخمس ليرات لي وحدي.
وأنت تعرف لا شك: جنّ جنونهم، ضاع رابط الدم فوقفوا جميعاً ضدي. لقد أنذروني أولاً. ولكنني كنت مستعداً لما هو أكثر من ذلك ثم بدأوا يضربونني. وكان بوسعي بالطبع أن أدافع عن نفسي، ولكن لأنني أردت أن أحتفظ بكفي داخل جيبي مطبقة على الخمس ليرات فقد كان من العسير حقاً أن أتجنب الضربات المحكمة. وقد تفرّج جدّي على المعركة باستثناء بادئ الأمر، ثم لما بدأت المعركة تفقد طرافتها قام فوقف أمامهم، وبذلك يسر لي أن ألتصق به. اقترح تسوية. قال إن الكبار لا حق لهم بالمبلغ. ولكن من واجبي أن آخذ كل أطفال البيت ذات يوم صحو إلى حيث نصرف جميعاً مبلغ الخمس ليرات كما نشاء.
عندها تقدّمت إلى الأمام معتزماً الرفض، إلاّ أنني في اللحظة ذاتها شهدت في عينيه ما أمسكني. لم أفهم بالضبط آنذاك ما كان في عينيه، ولكنني شعرت فقط أنه كان يكذب وأنه كان يرجوني أن أصمت.

أنت تعرف أن طفل العشر سنوات – زمن الاشتباك – لا يستطيع أن يفهم الأمور (إذا كان ثمة حاجة لفهمها) كما يستطيع عجوز مثل جدّي. ولكن هذا هو ما حصل. كان يريد جريدته ربما كل يوم لمدة أسبوع – وكان يهمه أن يرضيني بأي ثمن.

وهكذا اتفقنا ذلك المساء. ولكنني كنت أعرف أن مهمتي لم تنته. فعليّ أن أحمي الليرات الخمس كل لحظات الليل والنهار. ثم عليّ أن أماطل بقية الأطفال. وعليّ أيضاً أن أواجه محاولات إقناع وتغرير لن تكف عنها أمي. قالت لي ذلك المساء أن الليرات الخمس تشتري رطلين من اللحم، أو قميصاً جديداً لي، أو دواء حين تقتضي الحاجة، أو كتاباً إذا ما فكّروا بإرسالي إلى مدرسة مجانية في الصيف القادم... ولكن ما نفع الكلام؟ كأنها كانت تطلب مني وأنا أعبر بين طلقتين أن أنظف حذائي.

ولم أكن أعرف بالضبط ماذا كنت أنوي أن أفعل. ولكنني طوال الأسبوع الذي جاء بعد ذلك نجحت في مماطلة الأطفال، بآلاف من الكذبات التي كانوا يعرفون أنها كذلك ولكنهم لم يقولوا إطلاقاً أنها أكاذيب. لم تكن الفضيلة هنا. أنت تعلم. كانت مسألة أخرى تدور حول الفضيلة الوحيدة آنذاك:الخمس ليرات.
ولكن جدّي كان يفهم الأمور، وكان يريد جريدته ثمناً معادلاً لدوره في القصة، وحين مضى الأسبوع بدأ يتململ. لقد شعر (من المؤكد أنه شعر، ذلك لأن رجلاً عجوزاً مثله لا يمكن أن تفوته تلك الحقيقة) أنني لن أشتري له الجريدة، وأنه فقد فرصته، ولكنه لم يكن يمتلك أية وسيلة لاستردادها.
وحين مرّت عشرة أيام أخرى اعتقد الجميع أنني صرفت الليرات الخمس، وأن يدي في جيبي تقبض على فراغ. على خديعة. ولكن جدّي كان يعرف أن الليرات الخمس ما تزال في جيبي. وفي الواقع قام ذات ليلة بمحاولة لسحبها من جيبي وأنا مستغرق في النوم، (كنت أنام بملابسي) إلاّ أنني صحوت فتراجع إلى فراشه ونام دونما كلمة.
قلت لك. إنه زمن الاشتباك. كان جدّي حزيناً لأنه لم يحصل على جريدة، وليس لأنني نكثت بوعد لم يتفق عليه. كان يفهم زمن الاشتباك، ولذلك لم يلمني طوال السنتين اللتين عاشهما بعد ذلك على ما فعلته. وقد نسي عصام القصة أيضاً. كان في أعماقه – كطفل صعب المراس- يفهم تماماً ما حدث. واصلنا رحلاتنا اليومية إلى سوق الخضار، كنا نتشاجر أقل من أي وقت مضى ونتحادث قليلاً. يبدو أن شيئاً ما – جداراً مجهولاً ارتفع فجأة بينه – هو الذي ما زال في الاشتباك – وأنا الذي تنفّست – ليس يدري كم – هواء آخر.
وأذكر أنني احتفظت بالخمس ليرات في جيبي طوال الخمسة أسابيع: كنت أعد خروجاً لائقاً لها في زمن الاشتباك. إلاّ أن كل شيء حين يقترب من التنفيذ كان يبدو وكأنه جسر للعودة إلى زن الاشتباك وليس للخروج منه.

كيف تستطيع أن تفهم ذلك؟ كان بقاء الليرات الخمس معي شيئاً يفوق استعمالها. كانت تبدو في جيبي وكأنها مفتاح أمتلكه في راحتي وأستطيع في أية لحظة أن أفتح باب الخروج وأمضي. ولكن حين كنت أقترب من القفل كنت أشمّ وراء الباب زمن اشتباك آخر. أبعد مدى. كأنه عودة إلى بداية الطريق من جديد.

وما بقي ليس مهماً: ذات يوم مضيت مع عصام إلى السوق وقد اندفعت لأخطف حزمة من السلق كانت أمام عجلات شاحنة تتحرّك ببطء. وفي اللحظة الأخيرة زلقت وسقطت تحت الشاحنة. كان حظي جيداً فلم تمر العجلات فوق ساقي، إنما توقّفت بالضبط بعد ملامستها. وعلى أية حال صحوت من إغمائي في المستشفى. وكان أول ما فعلته – ما لا شك تخمن – أن تفقّدت الخمس ليرات. إلاّ أنها لم تكن هناك.

أعتقد أن عصام هو الذي أخذها حين حملوه معي في السيارة إلى المستشفى. ولكنه لم يقل وأنا لم أسأل. كنا نتبادل النظر فقط ونفهم. لا، لم أكن غاضباً لأنه كان ملهياً وأنا أنزف دمي بأخذ الليرات الخمس. كنت حزيناً فقط لأنني فقدتها.

وأنت لن تفهم. ذلك كان في زمن الاشتباك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق