الثلاثاء، 19 أبريل 2016

قصة الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الجزء الاول

كنت أسكن مع سبعة أخوة كلهم ذكور شديدو المراس، وأب لا يحبّ زوجته ربما لأنه أنجبت له زمن الإشتباك ثمانية أطفال. وكانت عمتنا وزوجها وأولادها الخمسة يسكنون معنا أيضاً، وجدّنا العجوز الذي كان إذا ما عثر على خمسة قروش على الطاولة أو في جيب أحد السراويل الكثيرة المعلّقة مضى دون تردد واشترى جريدة، ولم يكن يعرف، كما تعلم، القراءة، وهكذا كان مضطراً للاعتراف دائماً بما اقترف كي يقرأ أحدنا على مسمعه الثقيلين آخر الأخبار.


في ذلك الزمن – دعني أولاً أقول لك أنه لم يكن زمن اشتباك بالمعنى الذي يخيّل إليك، كلاّ لم تكن ثمة حرب حقيقية. لم تكن ثمة أي حرب على الإطلاق. كل ما في الأمر أننا كنا ثمانية عشر شخصاً في بيت واحد من جميع الأجيال التي يمكن أن تتوفّر في وقت واحد. لم يكن أي واحد منّا قد نجح بعد في الحصول على عمل، وكان الجوع – الذي تسمع عنه- همنا اليومي. ذلك أسميه زمن الإشتباك. أنت تعلم. لا فرق على الإطلاق.

كنا نقاتل من أجل الأكل، ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا، ثم نتقاتل بعد ذلك. ثم في أية لحظة سكون يخرج جدّي جريدته المطوية باعتناء من بين ملابسه ناظراً إلى الجميع بعينيه الصغيرتين المتحفّزتين، معنى ذلك أن خمسة قروش قد سرقت من جيب ما – إذا كان فيه هناك خمسة قروش – أو من مكان ما. وأن شجاراً سيقع. ويظل جدّى متمسّكاً بالجريدة وهو يتصدّى للأصوات بسكون الشيخ الذي عاش وقتاً كافياً للإستماع إلى كل هذا الضجيج والشّجار دون أن يرى فيها ما يستحق الجواب أو الاهتمام.. وحين تهدأ الأصوات يميل أقرب الصبيان إليه (ذلك أنه لم يكن يثق بالبنات) ويدفع له الصحيفة وهو يمسك طرفها، كي لا تخطف.

وكنت مع عصام في العاشرة – كان أضخم مني قليلاً كما هو الآن.. وكان يعتبر نفسه زعيم إخوته أبناء عمتي – كما كنت أعتبر نفسي زعيم إخوتي.. وبعد محاولات عديدة استطاع والدي وزوج عمّتي أن يجدا لنا مهنة يومية: نحمل السلة الكبيرة معاً ونسير حوالي ساعة وربع، حتى نصل إلى سوق الخضار بعد العصر بقليل. في ذلك الوقت أنت لا تعرف كيف يكون سوق الخضار: تكون الدكاكين قد بدأت بإغلاق أبوابها وآخر الشاحنات التي كيف يكون سوق الخضار: تكون الدكاكين قد بدأت بإغلاق أبوابها وآخر الشاحنات التي تعبر بما تبقّى، تستعد لمغادرة ذلك الشارع المزحوم. وكانت مهمتنا – عصام وأنا – هيّنة وصعبة في آن واحد. فقد كان يتعيّن علينا أن نجد ما نعبئ به سلتنا: أمام الدكاكين. وراء السيارات.
وفوق المفارش أيضاً إذا كان المعنيّ في قيلولة أو داخل حانوته.

أقول لك أنه كان زمن الإشتباك: أنت لا تعرف كيف يمرّ المقاتل بين طلقتين طوال نهاره. كان عصام يندفع كالسهم ليخطف رأس ملفوف ممزّق أو حزمة بصل، وربما تفاحة من بين عجلات الشاحنة وهي تتأهّب للتحرّك. وكنت أنا بدوري أتصدّى للشياطين – أي بقية الأطفال – إذا ما حاولوا تناول برتقالة شاهدتها في الوحل قبلهم. وكنا نعمل طوال العصر: نتشاجر عصام وأنا من جهة، مع بقية الأطفال أو أصحاب الدكاكين أو السائقين أو رجال الشرطة أحياناً، ثم أتشاجر مع عصام فيما تبقّى من الوقت.

كان ذلك زمن الإشتباك. أقول هذا لأنك لا تعرف: إن العالم وقتئذ يقل على رأسه، لا أحد يطالبه بالفضيلة.ز سيبدو مضحكاً من يفعل.. أن تعيش كيفما كان وبأية وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة. حسناً. حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضاً. أليس كذلك؟ إذن دعنا نتفق بأنه في زمن الاشتباك يكون من مهمتك أن تحقق الفضيلة الأولى، أي أن تحتفظ بنفسك حيّاً. وفيما عدا ذلك يأتي ثانياً. ولأنك في اشتباك مستمر فإنه لا يوجد ثانياً: أنت دائماً لا تنتهي من أولاً.

وكان يتعيّن علينا أن نحمل السلّة معاً حين تمتلئ ونمضي عائدين إلى البيت: ذلك كان طعامنا جميعاً لليوم التالي.. بالطبع كنا أنا وعصام متفقين على أن نأكل أجود ما في السلّة على الطريق. ذلك اتفاق لم نناقشه أبداً، لم نعلن عنه أبداً. ولكنه كان يحدث وحده. ذلك أننا كنا معاً في زمن الاشتباك.

وكان الشتاء شديد القسوة ذلك العام الملعون، وكنّا نحمل سلّة ثقيلة حقاً، (هذا شيء لا أنساه، كأنك وقعت أثناء المعركة في خندق فإذا به يحوي سريراً) وكنت آكل تفاحة، فقد كنّا خرجنا من بوابة السوق وسرنا في الشارع الرئيسي. قطعنا ما يقرب من مسير عشر دقائق بين الناس والسيارات والحافلات وواجهات الدكاكين دون أن نتبادل كلمة (لأن السلة كانت ثقيلة حقاً وكنا نحن الإثنين منصرفين تماماً إلى الأكل) وفجأة..
لا. هذا شيء لا يوصف. لا يمكن وصفه: كأنك على نصل سكين من عدوك وأنت دون سلاح وإذا بك في اللحظة ذاتها تجلس في حضن أمك..

دعني أقول لك ما حدث: كنّا نحمل السلّة كما قلت لك، وكان شرطي يقف في منتصف الطريق، وكان الشارع مبتلاً، وكنا تقريباً دون أحذية. ربما كنت أنظر إلى حذاء الشرطي الثقيل والسميك حين شهدتها فجأة هناك،كان طرفها تحت حذائه، أي كنت بعيداً حوالي ستة أمتار ولكنني عرفت، ربما من لونها أنها أكثر من ليرة واحدة.
نحن في مثل هذه الحالات لا نفكّر. يتحدّثون عن الغريزة. طيّب. أنا لا أعرف ما إذا كان لون الأوراق المالية شيئاً له علاقة بالغريزة. له علاقة بتلك القوة الوحشية، المجرمة، القادرة على الخنق في لحظة، الموجودة في أعماق كل منا. ولكن ما أعرفه هو أن المرء في زمن الإشتباك لا ينبغي له أن يفكّر حين يرى ورقة مالية تحت حذاء الشرطي وهو يحمل سلة من الخضار الفاسد على بعد ستة أمتار. وهذا ما فعلته: ألقيت ببقايا التفاحة وتركت السلة في اللحظة ذاتها. ولا شك أن عصام تمايل فجأة تحت ثقل السلة التي تركت في يده ولكن كان قد شاهدها بعدي بلحظة واحدة. إلاّ أنني بالطبع كنت قد اندفعت تحت وطأة تلك القوة المجهولة التي تجبر وحيد القرون على هجوم أعمى، غايته آخر الأرض، ونطحت ساقي الشرطي بكتفي فتراجع مذعوراً. وكان توازني أنا الآخر قد اختلّ. ولكنني لم أقع على الأرض – وفي تلك اللحظة التي يحسب فيها الأغبياء أن لاشيء يمكن له أن يحدث – شاهدتها: كانت خمس ليرات. لم أشاهدها فحسب بل التقطتها واستكملت سقوطي. إلاّ أنني وقفت بأسرع مما سقطت وبدأت أركض بأسرع مما وقفت.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق